قبل يومين، كتب الصديق العزيز شريف العصفوري معلقاً على المنشور الذي كتبه عن التطورات على جبهة الحرب بين إسرائيل وحزب الله بعنوان فرعي "حسابات خاطئة أم رهانات خاطئة"، وقال موجها تعليقه بشكل مباشر للكاتب "يبقى ان تقرأ مقالاتك ومنشوراتك بعيد السابع من أكتوبر وتنقدها نقدا ذاتيا".
كنت اقرأ التعليق قبل دقائق من بدء الهجوم الصاروخي الإيراني غير المتوقع، وكنت اتابع الموقف على إذاعة راديو مكان التي قطعت البث العادي لمتابعة الموقف وانقطع حديث المراسل العسكري للإذاعة مع ورود تحذيرات من الغارات التي شملت المدن الإسرائيلية الكبرى والمراكز العسكرية في أنحاء إسرائيل والضفة الغربية، والتحذيرات كان لجميع المناطق في المدن والبلدات من جميع الاتجاهات (الشمال والجنوب والشرق والغرب)، على نحو يوحي بأن إسرائيل تتعرض لهجمات من جميع الاتجاهات، لم يكن واضحا في تلك اللحظات من أين يأتي هذا الهجوم الصاروخي وكان الاضطراب واضحا على المذيعة التي تقدم النشرة والتي اضطرت لترك الميكرفون للدخول إلى الغرفة الآمنة في مكتب الإذاعة في القدس المحتلة بعد دوي صافرات الإنذار في مناطق مختلفة من المدينة.
وكان ردي على التعليق: "الأهم أن نقرأ ما يجري الآن وفي هذه اللحظة. الواقع في حالة سيولة وتغير دائم. المقالات تتضمن تحليلات تفسر ما يحدث وأصبح نتنياهو وحلفه في مواجهة حقيقة انهم يواجهون شرق أوسط مغاير للشرق الأوسط الذي في مخيلتهم" ودعوته لقراءة مقالي الأخير عن الضفة الغربية".
القصد من المنشور الذي كتبته أول من أمس إعلان رأيي في أن حركات المقاومة يجب أن تبني تحركاتها استنادا إلى حسابات صحيحة ودقيقة، وألا تراهن إلا على القدرات التي تمتلكها بالفعل، ردا على كثير من التعليقات نسمعها من الناس عن الرد الإيراني المأمول على إقدام نتنياهو على اغتيال حسن نصر الله وبداخلهم قلق شديد مما قد يحمله المستقبل في ضوء خطاب نتنياهو عن الشرق الأوسط الجديد الذي يقيمه على أنقاض المقاومة التي بات انهيارها وشيكا، في رأيه أو حسب امنياته.
الواقع أنه لا يوجد صراع مشحون عاطفيا مثل الصراع مع إسرائيل، وهو صراع تتداخل فيه اعتبارات كثيرة ويخضع لمؤثرات كثيرة في مقدمتها صراع الرؤى والتفسيرات والقيم. وبالرغم من تعقيده وتعدد مستوياته إلا أنه مجال مناسب لتطبيق مناهج التحليل السياسي المنضبطة والمحكومة بقواعد البحث العلمي، أو بالأحرى هو مجال لاختبار قدرة الباحث أو المحلل على الالتزام الصارم بهذه القواعد والمعايير. ومن المفيد أن أحيط القارئ علما بمدى ما يبذله الباحث الملتزم من جهد ومشقة من أجل الوصول إلى استنتاجات تعبر عن الواقع وحقائقه بأكثر مما تعبر عن تمنياته أو تمنيات الجمهور وتوقعاته. وأخطر شيء في مثل هذه الصراعات هو الاستسلام للتفكير الرغبي، والسير وراء تذبذب الآراء والمواقف مع كل هجوم، المهم في مثل هذه الحالات، هو حرص الباحث أو المحلل وسعيه الدؤوب على رؤية الأشياء كما هي لا كما يتمنى، على النحو الذي بينه جون سيرل، أستاذ الفلسفة الأمريكي بجامعة كاليفورنيا المهتم بتطوير نظرية الإدراك، والذي ترجمه للغة العربية الدكتور إيهاب عبد الرحيم علي وهو من أبرز مترجمي النصوص العلمية العرب.
بداية، يجب ملاحظة أن مناهج وأدوات البحث في العلوم الاجتماعية تختلف عن مناهج وأدوات البحث في العلوم التي تدرس ظواهر طبيعية، نظرا لاختلاف طبيعة الظواهر من ناحية، ولعلاقة الباحث بالظاهرة التي يدرسها من ناحية أخرى، الأمر الذي جعل مشكلة التحيز واحدة من أكبر المشكلات التي يواجهها الباحث أو المحلل الذي يدرس ظواهر اجتماعية أو سياسية أو حتى اقتصادية، علاوة على مشكلة القدرة على التنبؤ بتطورات الظاهرة أو الموقف. هناك مشكلة أخرى يواجهها الباحثون والمحللون في مجال العلوم الاجتماعية هي التصور الشائع الذي يخلط بين الرأي الذي يتأثر بانطباعات قائله وميوله وأهوائه، وبين التحليل الصادر عن باحث يسعى لتحليل الوقائع ويتعامل بشكل صارم مع تصوراته المسبقة وتحيزاته المعرفية ورغباته وأهوائه أو أن يطوع نتائج تحليله ويزيف الوقائع أو يلوي عنقها ليخلص إلى نتائج مرضية لجمهوره. هؤلاء ينتجون أسوأ أنواع البحوث خصوصاً إذا كان الجمهور الذي يسعى لإرضائه من المشتغلين في صنع القرار. المحلل وظيفته أن يجتهد لدراسة الظاهرة أو الحدث أو الموقف المطلوب منه دراسته بعقل بارد وأن يقف على مسافة كافية من الموضوع الذي يدرسه، وأن يتبع عددا من الأساليب في التحليل تضمن له الوصول إلى نتائج أكثر دقة، ومن ثم يساعد القراء على تكوين صورة أدق للموقف أو الحدث.
لا شك أن كثيرا من عيوب البحث والتحليل يظهر في حالة صراعات يتعين على الباحث أن يكون له موقف متحيز إزائها، وإلا واجه اتهامات من جمهوره وواجه مخاطر من السلطة التي تتبنى مواقف متعارضة مع ما تصل إليه الأبحاث من نتائج، وأخطر هذه العيوب ما ذكرته بخصوص جو الإرهاب الفكري الذي يتحرك فيه المحلل أو الباحث والحسابات التي يجريها لتجنب أن يكون للصياغة التي يقدمها تأثير على الجمهور وحالته النفسية أو تستخدم الاستنتاجات التي توصل وتوظف في الصراع بطريقة أو أخرى. ربما لا يدرك كثير من القراء والكتاب غير الواعين بخطورة البحث لمثل هذه الأمور فيما يصدرون من آراء ويكتبون من تعليقات. والحقيقة أن من يقرأ سلسلة المقالات التي كتبتها عن الصراع منذ السابع من أكتوبر إلى الآن لا تستهدف تقديم تعليقات على الأحداث ترضي هذه الفريق أو ذاك من الفرق التي تتبنى مواقف وآراء شديدة التباين، وإنما الهدف هو محاولة صادقة لتطوير منظور جديد يصحح كثيرا من الحقائق المغلوطة الشائعة ويناقش السرديات السائدة بخصوص هذا الصراع، ويتصدى أيضا للتوظيف السياسي لهذه الروايات والسرديات، والرؤى المتباينة للصراع بين من يروجون لأنه صراع ديني وبين من يروجون لنظرية الإمبريالية والصراع العالمي مع الرأسمالية والذي يتصورون إلى أننا ما زلنا نعيش في فترة الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين.
كثيرا ما أعود لقراءة ما كتبته عند كتابة مقال جديد تجنبا للتكرار غير اللازم وتحليل الموضوع في ضوء ما كتبته، لكن عيني دائما على الواقع وتغيراته، فالواقع دائماً هو المحك لاختبار النظريات والفرضيات ويجري تعديل الرأي وفقا للمتغيرات التي تعدل من التصور، تماما مثلما يفعل السياسي، مع اختلاف الغاية والقصد من تلك المرونة في التعامل مع المتغيرات التي تجنبنا الرضوخ لحالة من الجمود الفكري والسقوط في فخ الحتمية. فالظواهر السياسية والاجتماعية شأنها شأن أي حدث مفتوح لعدد من الاحتمالات التي يتعين أخذها في الاعتبار عند التحليل. كذلك من المهم التمييز بين الوقائع والحقائق وبين الروايات والتصريحات التي تبنى على هذه الوقائع، وفهم هذه الروايات والتصريحات في سياق تحليلنا للخطاب والحوار السياسي الجاري بين الأطراف المنخرطة في الحدث، فلا ينبغي مثلا التعامل مع كلمات يحيى السنوار زعيم حماس وغيره من قيادات المقاومة على أنها حقائق، وكذلك لا ينبغي القفز لاستنتاجات من خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أنه حقيقة واقعة، وعلى المحلل أن يضع هذه التصريحات في سياقها وفي حدودها كجزء من ظاهرة الحوار السياسي وأن يتعامل معها بحذر شديد.
وفي هذا الشأن يمكن الاستفادة من مقال مهم كتبه ريموند سميث، وهو محلل سياسي بدرجة مستشار في وزارة الخارجية الأمريكية، عن الأخطاء التي يجب تجنبها عند كتابة تحليل سياسي. وتركز الورقة المنشورة في موقع "أمريكان دبلوماسي" على أن الاحتمالات وتقديرها مسألة محورية في أي تحليل جيد وحذر من الوقوع في فخ التنبؤ بالمستقبل كأحد العيوب القاتلة في التحليل وحذر من الأخطاء التي ترتكب في تقييم المخاطر ومن تعديل التحليل إرضاء للرؤساء، أو حتى الجمهور العام، وإهمال النظر في النتائج المحتملة التي لا تستقيم مع التحليل المقدم بل يتعين وضعها في الاعتبار ومناقشة تأثيرها المحتمل، والأهم هو الابتعاد قدر الإمكان عن المنطق الخطي المعتمد على استخلاص مسارات من الخبرات السابقة ذلك أنه في العالم المعقد وتطوير نماذج تحاكيه تكشف لنا عن نتائج لم تكن متوقعة أو مقصودة او التأثير الكبير الذي يمكن أن تحدثه مسببات تافهة مثل جناح بعوضة.
------------------------------------
بقلم: أشرف راضي